سورة يس
قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن} الآية.
ظاهرها خصوص الإنذار بالمنتفعين به ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الإنذار كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}.
وقوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} وقد قدمنا وجه الجمع بأن الإنذار في الحقيقة عام وإنما خص في بعض الآيات بالمؤمنين لبيان أنهم هم المنتفعون به دون غيرهم كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
وبين أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى إيمان الأشقياء بقوله:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
سورة الصافات
قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ}، هذه الآية الكريمة فيها التصريح بنبذ يونس بالعراء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك وهي قوله: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} الآية.
والجواب: أن الامتناع المدلول عليه بحرف الامتناع الذي هو لولا منصب على الجملة الحالية لا على جواب لولا.
وتقرير المعنى: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما لكنه تداركته نعمة ربه فنبذ بالعراء غير مذموم فهذه الحال عمدة لا فضلة، أو أن المراد بالفضلة ما ليس ركنا في الإسناد وإن توقفت صحة المعنى عليه ونظيرها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} الآية لأن النفي فيهما منصب على الحال لا على ما قبلها.
سورة ص
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْم} الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على أن الخصم مفرد ولكن الضمائر بعده تدل على خلاف ذلك، والجواب أن الخصم في الأصل مصدر خصمه والعرب إذا نعتت بالمصدر أفردته وذكّرته، وعليه فالخصم يراد به الجماعة والواحد والاثنان ويجوز جمعه وتثنيته لتناسي أصله الذي هو المصدر وتنزيله منزلة الوصف.
قال ابن مالك:
ونعتـوا بمصـدر كثيـرا
فالتزمـوا الإفـراد والتذكيـرا
سورة الزمر
قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} ظاهر في الإفراد، وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} يدل على خلاف ذلك.
وقد قدمنا وجه الجمع محررا بشواهده في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} الآية.
قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية: هذه الآية الكريمة تدل على أمرين.
الأول: أن المسرفين ليس لهم أن يقنطوا من رحمة الله مع أنه جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.
والجواب أن الإسراف يكون بالكفر ويكون بارتكاب المعاصي دون الكفر فآية {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} في الإسراف الذي هو كفر وآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في الإسراف بالمعاصي دون الكفر، ويجاب أيضا بأن آية {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} فيما إذا لم يتوبوا وأن قوله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} فيما إذا تابوا.
والأمر الثاني: أنها دلت على غفران جميع الذنوب، مع أنه دلت آيات أخر على أن من الذنوب ما لا يغفر وهو الشرك بالله تعالى.
والجواب-أن الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} مخصصة لهذه، وقال بعض العلماء هذه مقيدة بالتوبة بدليل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} فإنه عطف على قوله {لا تقنطوا}، وعليه فلا إشكال وهو اختيار ابن كثير.
سورة غافر
قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} هذه الآية الكريمة تدل على أن استغفار الملائكة لأهل الأرض خاص بالمؤمنين منهم، وقد جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} الآية.
والجواب أن آية غافر مخصصة لآية الشورى، والمعنى ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين لوجوب تخصيص العام بالخاص.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} لا يخفى ما سبق إلى الذهن في هذه الآية من توهم المنافاة بين الشرط والجزاء في البعض لأن المناسب لاشتراط الصدق هو أن يصيبهم جميع الذين يعدهم لا بعضه مع أنه تعالى لم يقل وإن يك صادقا يصبكم كل الذي يعدكم، وأجيب عن هذا بأجوبة من أقربها عندي أن المراد بالبعض الذي يصيبهم هو البعض العاجل الذي هو عذاب الدنيا لأنهم أشد خوفا من العذاب العاجل، ولأنهم أقرب إلى التصديق بعذاب الدنيا منهم بعذاب الآخرة، ومنها أن المعنى: إن يك صادقا فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وعلى هذا فالنكتة المبالغة في التحذير لأنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل، وفيه إظهار لكمال الإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا.
ومنها -أن لفظة- البعض يراد بها الكل وعليه فمعنى بعض الذي يعدكم كل الذي يعدكم ومن شواهد هذا في اللغة العربية قول الشاعر:
إن الأمـور إذا الأحـداث دبـرها
دون الشيوخ ترى في بعضـها خلـلا
يعني ترى فيها خللا.
وقول القطامي:
قد يـدرك المتـأني بعض حـاجته
وقد يـكون مع المستعجـل الزلل
يعني قد يدرك المتأني حاجته.
وأما استدلال أبي عبيدة لهذا بقول لبيد:
تـراك أمـكنـة إذا لم أرضـهـا
أو يعتـلـق بعض النفـوس حمامـها
فغلط منه لأن مراد لبيد ببعض النفوس نفسه كما بينته في رحلتي في الكلام على قوله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية.
سورة فصلت
قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْض} إلى قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية.
قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من منافاة هذه الحال وصاحبها لأنها جمع مذكور عاقل وصاحبها ضمير تثنية لغير عاقل ولو طابقت صاحبها في التثنية حسب ما يسبق إلى الذهن لقال: أتينا طائعتين.
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما – وهو الأظهر عندي – أن جمعه للسموات والأرض لأن السموات سبع والأرضين كذلك بدليل قوله {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فالتثنية لفظية تحتها أربعة عشر فردا، وأما إتيان الجمع على صيغة جمع العقلاء فلأن العادة في اللغة العربية أنه إذا وصف غير العاقل بصفة تختص بالعاقل أجرى عليه حكمه ومنه قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} لما كان السجود في الظاهر من خواص العقلاء أجرى حكمهم على الشمس والقمر والكواكب لوصفها به، ونظيره، قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}.
فأجرى على الأصنام حكم العقلاء لتنزيل الكفار لها منزلتهم، ومن هذا المعنى قول قيس بن الملوح:
أسرب القطا هل من يعير جناحه
… البيت.
فإنه لما طلب الإعارة من القطا وهي من خواص العقلاء أجرى على القطا اللفظ المختص بالعقلاء لذلك، ووجه تذكير الجمع أن السموات والأرض تأنيثها غير حقيقي.
الوجه الثاني: أن المعنى قالتا أتينا بمن فينا طائعين فيكون فيه تغليب العاقل على غيره والأول أظهر عندي والعلم عند الله تعالى.
سورة الشورى
قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يوم القيامة ينظرون بعيون خفية ضعيفة النظر وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.
والجواب هو ما ذكره صاحب الإتقان من أن المراد بحدة البصر العلم وقوة المعرفة، قال قطرب: فبصرك أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم بصر بكذا أي علم وليس المراد رؤية العين، قال الفارسي ويدل على ذلك قوله {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ}.
وقال بعض العلماء: فبصرك اليوم حديد أي تدرك به ما عميت عنه في دار الدنيا ويدل لهذا قوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} الآية، وقوله: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}الآية، وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
ودلالة القرآن على هذا الوجه الأخير ظاهرة فلعله هو الأرجح وإن اقتصر صاحب الإتقان على الأول.
سورة الزخرف
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} كلامهم هذا حق لأن كفرهم بمشيئة الله الكونية وقد صرح الله بأنهم كاذبون حيث قال: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}.
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأنعام في الكلام على قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} الآية.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} هذا العطف مع التنكير في هذه الآية يتوهم الجاهل منه تعدد الآلهة مع أن الآيات القرآنية مصرحة بأنه واحد كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية.
والجواب- أن معنى الآية أنه تعالى هو معبود أهل السموات والأرض فقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} أي معبود وحده في السماء كما أنه المعبود بالحق في الأرض سبحانه وتعالى.
سورة الدخان
قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها ثبوت العزة والكرم لأهل النار مع أن الآيات القرآنية مصرحة بخلاف ذلك كقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين أذلاء.
وكقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، وقوله هنا: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}.
والجواب- أنها نزلت في أبي جهل لما قال: أيوعدني محمد صلى الله عليه وسلم وليس بين جبليها أعز ولا أكرم مني فلما عذبه الله بكفره قال له ذق إنك أنت العزيز الكريم في زعمك الكاذب بل أنت المهان الخسيس الحقير فهذا التقريع نوع من أنواع العذاب.
سورة الجاثية
قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} لا يعارض قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ولا قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأعراف.
سورة الأحقاف
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير وهي قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فإن قوله وما تأخر تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة والجواب ظاهر وهو أن الله تعالى علمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه.
ويستأنس له بقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} الآية، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}، وقوله:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية.
وهذا الجواب هو معنى قول ابن عباس وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة بأنها منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} الآية.
ويدل له أن الأحقاف مكية وسورة الفتح نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وأجاب بعض العلماء بأن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه وإجارته من عذاب أليم لا دخوله الجنة، وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بظاهر هذه الآية فقالوا إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} لأنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس والجواب عن هذا أن آية الأحقاف نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة لأنه تعالى قال فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم فقوله لمن خاف يعم كل خائف مقام ربه ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معا بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه أي نعمه على الإنس والجن فلا تعارض بين الآيتين لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى ولو سلمنا أن قوله: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يفهم منه عدم دخولهم الجنة فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم وقوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فبأي آلاء ربكما تكذبان} يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث، ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب وليس داخلا في واحد منهما فظهر عدم دخوله فيه أصلا، أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط فلأن قوله {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله كما قيل به وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور فتقرير المعنى أجيبوا داعي الله وآمنوا به أن تفعلوا ذلك يغفر لكم فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر، والجواب عن هذا أن مفهوم الشرط عند القائل به إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم وهو كذلك، أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره كما لو قلت لشخص مثلا إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع، لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ثم بين في موضع آخر وهذا لا إشكال فيه، وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يكن انتظام الكلام العربي دونه أعني المسند إليه سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك وقد أوضحنا اللقب غاية في المائدة.
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما وأن تخصيصهما في الآية مسندان لا مسند إليهما بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يسند إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية، ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة، وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به إنما هو في المسند إليه لا في المسند لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلا وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية فلو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية أو الذهني إن كانت حقيقية.
وأما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فقال يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول الله فهذا كفر بإجماع المسلمين فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع أو غير ذلك، فقولك جاء زيد لا يفهم منه عدم مجيء عمرو، وقولك رأيت أسدا لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر واسم العين فلا يعتبر لا يظهر فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية، ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به إلا أنه يقول لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة كما علل به مفهوم الصفة لأن الجمهور يقولون ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه، وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله:
أضعـفـها اللقـب وهـو مـا أبي
من دونـه نظـم الكـلام العـربي
وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين وهو صريح، قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}، وقوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ فِي النَّارِ} إلى غير ذلك من الآيات، وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين والظاهر دخولهم الجنة كم بينا والعلم عند الله تعالى.
سورة القتال
قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} هذه الآية الكريمة تدل على تعدد الأنهار مع تعدد أنواعها، وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها أنه نهر واحد وهي قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} وقد تقدم الجمع واضحا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنّ} الآية، وبينا أن قوله: {وَنَهَرٍ} يعني أنهار.
سورة الفتح
أما دلالة الكتاب على هذا ففي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكرا على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر ترتيب المعلول على علته ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله:{إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أصحابه لا تجهد نفسك بالعمل فإن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " أفلا أكون عبدا شكورا؟" فبين صلى الله عليه وسلم أن اجتهاده في العمل لشكر تلك النعمة وترتب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به.
الوجه الثاني: إن قوله {إِنَّا فَتَحْنَا} يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله لأنه السبب الأعظم في الفتح، والجهاد سبب لغفران الذنوب فيكون المعنى ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح، والعلم عند الله تعالى.
جزاك الله خيرًا ، حبذ لو تكبّر الخطّ قليلا .
شكرا على المرور. للأسف لا أعرف كيف أكبر الخط! جربي ضغط زر "Ctrl" في نفس الوقت مع زر "+"