العلاّمة الداعية المجاهد رجل الفكر والسياسة

من أعلام الفكر والأدب والسياسة والإصلاح في (الجزائر) خصوصاً، وفي الوطن العربي عموماً، العلاّمة الداعية المجاهد الشيخ (الفضيل الورتلاني: 1900-1959) الذي كان ذا أثر فكري إصلاحي بالغ في العالم الإسلامي بصفة عامة، ومنه (الوطن العربي) خاصة.‏

خاض النضال السياسي على الجبهة الجزائرية مع الاحتلال الفرنسي، كما خاض النضال الفكري والإصلاحي عربيا‌ً خصوصاً، وإسلامياً عموماً، جاعلاً من قضية العرب والمسلمين شاغله حتى عن أوجاعه، وأمراضه المتألبة التي لم تمهله حتى أجهزت عليه ذات يوم في (أنقرة) يوم (12 مارس 1959).‏

ولد (الفضيل بن محمد حسين الورتلاني) في بلدية (بني ورتلاني) بولاية (سطيف) في (الجزائر) يوم (2/6/1900م) لأسرة عريقة في العلم، والثقافة الإسلامية، حيث حفظ القرآن الكريم، ودرس مبادئ العربية والعلوم الشرعية، لينتقل بعد ذلك إلى مدينة (قسنطينة) سنة (1928) حيث درس على أستاذ الجيل المصلح الجزائري، الشيخ (عبد الحميد بن باديس) ولم يلبث حتى بات منذ سنة (1932) مساعداً له في التدريس، و"متجوّلاً لصالح مجلة (الشهاب) ومرافقاً لابن باديس في بعض رحلاته بالوطن، مشاركاً بقلمه في كل من (البصائر) و(الشهاب) بروح وطنية متوثبة، وشعور ديني ملتهب.‏

ولإمكاناته الفكرية ومعارفه العلمية الدينية وقدرته على الخطابة وإجادة الاتصال، أوفدته (جمعية العلماء المسلمين الجزائرين) إلى (باريس) سنة 1930 لنشر فكرها الإصلاحي، وتعهّد شؤون المغتربين الدينية"(1).‏

فاستطاع أن يكون (الداعية) المخلص الناجح الذي أحدث نحو ثلاثين مركزاً ونادياً للدعوة، في فرنسا، خصوصاً في (باريس) حيث عمل لتوثيق روابط الأخوة والمحبة والتعاون بين أبناء الجاليات الإسلامية، انطلاقاً من قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وهو الموضوع الذي عالجه في إحدى مقالاته بعنوان "التعاون مقدس، والتعارف أقدس" فكتب بعد التمهيد بالآية السابق ذكرها: "هذا كلام عربي مبين، ومع ذلك فإنا نجد العرب والمسلمين في هذه الأيام أزهد خلق الله في التعارف، وأزهد ما يكونون مع أخوانهم في الجنس واللغة والدين والمصلحة".‏

هذا النشاط القومي الديني الإصلاحي بمضمونه السياسي جعله موضع ترصّد واهتمام لدى السلطات الفرنسية، خصوصاً ونذر الحرب (العالمية الثانية) تلوح في الأفق، حتى بات مستهدفاً من (البوليس الفرنسي) للقبض عليه وسجنه فعمل للفكاك مما يدبّر له في أجهزة البوليس الفرنسي، فكان الشخص الذي "أنقذه.. وساعده على الخروج سراً من فرنسا ونجا بأعجوبة من إلقاء القبض عليه هو أمير البيان العربي شكيب أرسلان، وكان من أعزّ أصدقاء الشيخ الورتلاني.. مع نخبة من علماء المشرق العربي من مختلف الأقطار العربية الإسلامية المتواجدين آنذاك بالعاصمة الفرنسية خلال فترة مهمته بفرنسا".‏

فكانت وجهته إذن سنة 1940 (القاهرة) حيث آثر الانتساب إلى (الأزهر) فحصل على شهادته (العالمية) في "كلية أصول الدين والشريعة الإسلامية" مواصلاً جهاده القومي الوطني، للتعريض بالاستعمار الفرنسي في (الجزائر) وخدمة "القضية الجزائرية، وقضايا المسلمين عموماً، فأسس مثلاً سنة (1942م) (اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر) كما أسس سنة (1944) (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا) ثم مكتب (جمعية العلماء المسلمين) في (القاهرة) سنة (1948م) الذي استقبل فيه الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) سنة (1952م) وقد صار عضواً في تنظيم حركة (الأخوان المسلمين) حتى اتهم بالمشاركة في محاولة انقلابية في (اليمن) قتل فيها (يحيى حميد الدين) إمام اليمن (1869-1948م) فقبض عليه هناك ثم أفرج عنه مع من شملهم العفو الذي سخر منه (الإبراهيمي) في مقالة نشرها في البصائر معرّضاً بالنظام القائم على الهوى لا على القانون(1).‏

ولم تعلن الثورة الجزائرية (1954) حتى أعلن مساندته لها، وعمله في صفوف جبهة التحرير، فعمل في وفدها الخارجي في (القاهرة) بهمّة عالية وجدّ وإخلاص لا يعرف مللاً ونفاقاً اعتاده السياسيون بينهم في علاقاتهم، الأمر الذي أزعج بعضهم في (الوفد الخارجي) لـ (جبهة التحرير) في (القاهرة) من الذين يؤثرون الراحة في "صالونات" السياسة، حتى وصفه أحدهم بالوباء، فأجهد نفسه غير عابئ بأكثر من داء كان يستوطن جسمه، مؤجلاً العلاج، معجلاً بالمبادرة في ميدان العمل والنشاط، حتى تمكّن منه الداء فصرعه في إحدى مستشفيات (تركيا) حيث كانت وفاته في (12 مارس 1959).‏

وبعد الاستقلال (1962) في الجزائر، نقلت رفاته من (تركيا) ليعاد دفنها في مسقط رأسه يوم (12 مارس 1987) لكنه كان أحد الذين شملهم (الجحود) بعدما استحوذ على دواليب الحكم في بلده (طلقاء) الثورة الجزائرية، فعاثوا فيه فساداً مستفيدين إلى أبعد حد من أسلوب "عفا الله عما سلف" الذي جعل (أبناء فرنسا) بالتبني و(الولاء) أسياداً في بلد الشهداء، والأحرار الذين أجهضت آمالهم، وتلاشت أحلامهم الوردية في أتون المؤامرات الاستعمارية الأوروبية، لكن (الورتلاني) بقي حياً في الوجدان الوطني والإسلامي، بجهوده الميدانية الشاهدة، وبأعماله المادية الناطقة بحبّه لوطنه، وأمته الإسلامية الكبرى، كما تعبّر عنها حشود من مقالاته في الصحف والدوريات الجزائرية، والعربية، والإسلامية عموماً، مما ضمّ جانباً منه كتابه "الجزائر الثائرة"(3).‏

وهو مجلد ضخم حوى كثيراً من عناصر التعبير عن معاناة (الجزائر) تجاه الاحتلال الفرنسي، ومعاناة العرب تخلفهم وتطاحنهم كمعاناة المسلمين تشرذمهم وتشتّتهم، محبباً التعاضد والاتحاد في بلده الذي أعلن ثورته، قائلاً عنه: "ليس في الجزائر اليوم من حيث الرأي والعمل إلا هيئة واحدة اسمها ومسماها الأمة الجزائرية الثائرة"(3) لائحاً باللائمة على التفرق والاختلاف بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة، وهو كما يقول: "من أثر الواقع المرّ الذي باعد بين عقولهم وأفكارهم، وبين قلوبهم وإحساساتهم، حتى كثرت أممهم وهم أمة واحدة، وحتى تعددت دولهم.. لأنهم فقدوا المصلحين الأكفاء دراية وإخلاصاً" لتوفير "الوسائل الصالحة لخلق الأمة العربية الواحدة" وبناء الأمة الإسلامية المتماسكة، القوية المتعاضد أبناؤها جميعاً في السراء والضراء.‏

مهما يكن من شيء يبقى (الفضيل الورتلاني) شخصية عربية إسلامية ذات أثر بعلمها، ودعوتها، فهو الوطني الجزائري الغيور على وطنه (الجزائر) المحتل، وهو العروبي المشوق إلى وحدة هذه الأمة كلبنة جوهرية أساسية أولى في بناء وحدة المسلمين، وتعاونهم على الخير، وتآزرهم في مواجهة الأعداء والخصوم.‏

رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، بين الذين رضي الله عنهم، والخالدين في ضمائر أممهم.‏

—–

مقدمة:

لقدكانت لحالة الجزائريين المرضية في القرن 19 للميلاد من انتشار للضلالاتوأسباب الغواية والانحراف ومحاولة الاستدمار طمس الشخصية ونشر الإلحادوالتنصير فبرز علماء جزائريون حاولوا بكل جهدهم تنوير قومهم ، و تعليمهممبادئ الدين الإسلامي الحنيف ، بعيدا عن الخزعبلات و البدع التي انتشرتبسبب الجهل و الاستدمار، و من بين هؤلاء الرجال مترجمنا الذي عمل جاهدا معثلة من العلماء يتقدمهم الشيخين عبد الحميد بن باديس والإبراهيمي الذينعملوا على التصدي ومحاصرة هذه الأمراض التي فككت أواصر هذه الأمة ، وبذلوا الغالي و النفيس في سبيل تصحيح المفاهيم و إعداد الشعب الجزائريللعودة إلى منابع الإسلام القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة.

مولده و أسرته :

ولدفي قرية ألموثن ببني ورتيلان، ولاية سطيف حاليا سنة 1276 هـ ( 1859 م ) ،و قد كتب والده في مجلد مخطوط بخط يده ما يلي : " …. في اليوم الثامن منرجب أحد شهور الله الحرم من عام 1276 هـ سنة ست و سبعين و مائتين وألف ،جعل الله البركة في عمره و أنبته نباتا حسنا و رزقه العلم النافع و القلبالخاشع و الرزق الواسع و العمل المتقبل ، و حفظه مما يخشى منه و جعله بارالربه مع والديه و حشرنا و إياه مع أبائنا في زمرة مؤلفي هذا الكتاب وتغمدنا برحمته آمين".
ينتمي إلى أسرة " المرابطين الشرفاء " [ وأخيكمأبو مريم منهم ] الذين ينتسبون – و الناس مصدقون في أنسابهم – إلى الدوحةالنبوية الشريفة ، و بقوا محافظين على هذا الشرف حتى حين امتزجوا بمختلفالأسر البربرية بالمصاهرة ، فيسبق اسمهم " بسيدي فلان" ، أما الأنثى فتدعىب: " لـلا ".
و هذه الأسرة اشتهرت بالعلم و الدين ، فعائلة أبهلول ( البهاليل : الشجعان الصناديد ) لا يخلو جيل منها من عالم قرآني أو محدث أوفقيه أو أديب.

طلبه العلم و شيوخه:

أول شيوخه هو والدهالشيخ الطاهر بن احمد ابهلول و قد عرف بعلمه وفقهه، كما كان من حفاظالقرآن الكريم ، فعلمه مبادئ العربية و رسم الكتابة ، و لما بلغ الخامسةمن عمره بدأ في تحفيظه القرآن الكريم ، كما قام بتأديبه و تربته أحسنتربيه فلقته تعاليم الإسلام القويم، و قد طال العمر بالوالد حتى رأى ابنهعالما و مدرسا لا يشق له غبار.
و حفظ مترجمنا عن ظهر قلب بعض الأراجيزفي القراءات و التوحيد و مبادئ الفقه و اللغة ، أثناء حفظه للقرآن الكريمالذي ختمه ثلاث ختمات متتالية ، ثم قرأ مختصر خليل في الفقه و ألفية ابنمالك ، و حفظ المتون المعروفة في وقته و استوعب النص و شروحه ، مما جعلهمرجعا حجة في القضاء و الفتوى لا يجاري و لا يضاهي بإجماع علماء وقتهومشايخه.
بعد هذه المرحلة انتقل لطلب العلم عند علماء وشيوخ المعاهد و الزوايا المعروفين و منهم:
– الشيخ يحي حمودي امام و مدرس مسجد اولموتن ببني ورتيلان حتى وفاته ، اخذعنه علوم الشريعة و الدين و قد أجازه بما لديه من مرويات و كتب بعد ان لمسبنفسه سعة علمه و أهليته لتلقي العلوم الشرعية.
– الشيخ عبد الله حموديابن الشيخ يحي حمودي و خليفته بعد وفاته و اخذ عنه علوم العربية و النحو والصرف و البلاغة و البيان ، و قد أجازه هو الأخر كوالده لما تأكد له ضلوعهفي العلوم المدروسة.
– الشيخ السعيد بن الحريزي العيدلي و عنه اخذ اصول الفقه و علوم اللسان و البلاغة و العروض.
– الشيخ محمد القاضي الصدوقي من قرية ثقاعت بلدة صدوق و لاية بجاية و عنه اخذ الفقه و التصوف و التفسير.
– الشيخ احمد رحاب المجاهد الذي شارك في ثورة الشريف المقراني سنة 1871م ، وعنه اخذ فنون المنطق و التاريخ الإسلامي عبر مؤلفات سعيد قدورة الازهري.

كما اخذ علوم التفسير و الحديث الشريف و الفقه عن الأساتذة:

– الشيخ حمدان لونيسي دفين المدينة النبوية طيبة المطيبة ،الأستاذ الكبير والأب الروحي للإمام عبد الحميد بن باديس، حيث تتلمذ له مترجمنا لما كانيزور مدينة قسنطينة ، كما كان يراسله يطلب رأيه في الفتاوي التي تعرض عليه، و كان مترجمنا حين يخاطبه يحليه هكذا : " حضرة ذي المعارف الربانية والنفحات الرحمانية ، وارث علم الأولين ، ونخبة العلماء العاملين ، إمامالتحقيق ، و علم التحرير و التدقيق، العلامة الجليل ، الدراكة النبيل…".
– العالم المفكر العامل بعلمه، الأستاذ المربي المعلم عبد القادر المجاويالقسنطيني المغربي ( ت سنة1332) المدرس بجامع الكتاني والمدرسة الكتانيةبقسنطينة ، ثم بالمدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة ، من مؤلفات الكثيرة: " إرشاد المتعلمين" ، و" المرصاد في مسائل الاقتصاد" , و " شرح منظومة فيإنكار البدع والمفاسد الاجتماعية " للمفتي الشيخ المولود بن الموهوب.

– الشيخ صالح بن مهنا القسنطيني الأزهري، أحد رجال الإصلاح في الجزائر الذينمع الأسف لا يعرفهم الكثير ، وقد كان المفكر الراحل مالك بن نبي رحمه اللهيعتبره رمز الإصلاح في الجزائر وينوه بذكره في كتبه و مقالاته و مجالسه ومذكراته، درس بجامع الزيتونة المعمور ، و بالأزهر الشريف ، و عين إماماخطيبا بالجامع الكبير بقسنطينة بعد عودته إلى أرض الوطن ، كما شارك فيالتعليم و التدريس ، و التأليف أيضا حيث ترك مؤلفات منها " البدر الأسمىفي بيان معاني نظم الأسماء الحسنى " و " كتاب شرح ابن عاشر "
و " تنبيه المغترين والرد على إخوان الشياطين " و " مختصر الترغيب والترهيب " و غيرها.
– الشيخ الفقيه الأديب الأريب ، عاشور الحنفي البسكري.

التدريس:
انتصبللتدريس و هو دون الثلاثين من عمره ، و استمر فيه أكثر من ستين سنة ، وكانت له طريقة في التعليم يستعمل فيها مختلف الطرق منها إيراد الأقوال والأمثال و الحكم و الأشعار، و قد استقبل الطلبة القادمين من مختلف جهاتالوطن ، و كان يوزعهم على محسني القرية للتكفل بهم ، الى جانب هذا كانينتقل إلى أماكن النزاع بنفسه للإصلاح بين المتنازعين ، و قد اشتهرتفتاويه حتى اعتمدها القضاة و راسله الكثير منهم في شأنها ، و قد علق علىفتاويه و أعجب بها و رضي بما فيه شيخه حمدان لونيسي ، كما قرضها الشيخ عبدالحميد بن باديس.
علم في نواحي عين البيضاء ( أم البواقي ) ، وادي زناتي ( ولاية قالمة) ،
زاوية بوقشابية ( عنابة) حيث درس مختصر خليل و السنوسية في التوحيد و الاجرومية في النحو و غيرها
معهد زاوية فريحة الساحلية ببني ورتيلان و له تلاميذ نجباء خلفوه في التدريس منهم التلميذ الوفي الشيخ صالح الفريحي
مسجدالشيخ الرحالة الشريف الحسين الورتيلاني ومن تلامذته فيه الشيخ الداعيةالفضيل الورتيلاني و غيره من الطلبة الذين انتقلوا إلى قسنطينة للالتحاقبمعهد ابن باديس ( الجامع الاخضر ) و أصبحوا قادة الحركات الإصلاحية والعلمية و الوطنية و استشهد غالبهم في الثورة التحريرية المباركة في سنمتقدمة
معهد الزاوية الزورقية بمشارف بني وغليس شمال وادي الصومام ، و هي تنسب الى الشيخ احمد زروق البرنوسي.
معهدزاوية سيدي موسى بني وغليس في سفح جبال جرجرة شمال وادي الصومام الذي يصبقرب ميناء بجاية الحمادية ، و هو معهد مشهور في بلاد القبائل الصغرى والكبرى لما له من أوقاف و شيوخ حيث يؤمه مئات الطلبة من جهات القطرالجزائري ، و قد اشتهر بتخريج أئمة الصلوات و الخطباء ، فحفظة القرآنالكريم منه يعدون بالمئات من خراطة عين الكبيرة نقاوس باتنه الزاب و غيرها.
مسجدسيدي عيش ( بجاية ) حيث كان الشيخ ينزل كل يوم أربعاء ، و هو يوم تنعقدفيه سوق عمومية مزدهرة و مشهورة يقصدها الناس بكثرة من القرى و المداشرالمجاورة ، فكان يعقد مجلس فتوى و قضاء يفتى فيه الناس ـ، يتلوه دروساللشيخ في الفقه و النحو و كتاب السلم في المنطق للشيخ الاخضري.

تلامذته:
تخرجعلى يدي الشيخ خلق و أمم لا تعد و لا تحصى ، و قد رأينا كثرة المعاهد والزوايا التي درس و علم فيها ، و كيف كان من المجددين في الحركة الاصلاحية، و من أشهر تلامذته:
أبناؤه :
– شهيد الثورة التحريرية المباركة ،الأستاذ المربي الأديب الشاعر عبد الملك فضلاء ( 1920 – 1957 م ).
– العالم الأديب المسرحي محمد الطاهر فضلاء رحمه الله ( 30 / 03 / 1918 م – 19 / 07 / 2024 م).
– الأديب المسرحي محمد الباهي فضلاء حفظه الله .
و العلماء و المشايخ :
– الشيخ المصلح الرحالة الفضيل الورتيلاني.
– الهادي الزروقي مؤسس الحركة الاصلاحية ببجاية
– العربي الشريف امام مسجد سيدي عيش و شهيد الثورة التحريرية
– يحي الحافظي امام حر و مدرس
– محمد الطاهر شرفاوي امام و مدرس
– محمد الشريف شرفاء امام و مدرس و صهر الشيخ السعيد.
– احمد بلعياضي امام بأولاد أبراهم بلد الشيخ الإبراهيمي و لاية برج بوعريريج. وعشرات غيرهم.

مؤلفاته:
ترك رسائل كثيرة منها :
رسالةفي الرد على القائلين من الطرقيين بوجوب تلقين الأوراد للعوام من المريدينو هي الرسالة التي طبعت سنة 1928 م بمطبعة رودوسي ، و قد قرضها و أثنىعليها عدد من العلماء آنذاك منهم الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كتب إليهرسالة مطولة بخصوصها أنقلها هنا:
" الحمد لله
جناب العلامة الاديب أخينا سيدي محمد السعيد البهلولي أطال الله بقاءه و رزقنا لقاءه
السلام عليكم و رحمة الله :
وفاء للثناء الذي أنتم أهله ، و كفاء للفضل الذي أنتم قراراته و محله…
نقدم لكم تهانينا القلبية بهذا العيد، راجين أن يكون طليعة خير و فأل يمن لجميع المسلمين.
وننهي لأخوتكم الكاملة ، إني اتصلت في أثناء السنة الماضية ، بواسطة الأخمحمد السعيد بن الشيخ الحسن برسالة من وضعكم ، و ابلغني اقتراحا منفضيلتكم على هذا الحقير ، أن يلقي عليها نظرة ، و يعطي فكرة فيما تضمنته ،ثم يرشد إلى طبعها إن رآها صالحة.
هزتني أريحية الثناء على جنابكم أولا لكمال إنصافكم و حسن ظنكم في هذا العاجز و أكبرت صنيعكم في ذلك.
ثم تأملت الرسالة ، فإذا انتم ترمون عن قوس فكرتي ، و ترودون مراد انتجاعي ، فحمدت الله ، و أيقنت أن ذلك نتيجة التعارف الروحي.
المسألةالتي كتبتم فيها هي المسألة الشاغلة لأفكار دعاة الإصلاح الديني فيالشرق…و لأخيكم الضعيف في هذا الميدان جولة ظهرت آثارها في الشرق مؤيدةبجند الله و البرهان العقلي ، و سلاح الأصلين الأصيلين : كتاب الله و ماصح من سنن نبيه [ صلى الله عليه و على آله وسلم ] القولية و الفعلية …بيد أن حالة الشرق غير حالة بلادنا ، فالأنصار في الشرق متوافرون ، وفكرة الإصلاح قد تسربت الى نفوس كثير من الطبقات ، و تشربتها و خالطتهابشاشتها ، و شعر الجمهور بفظاعة الحالة الحاضرة ووجوب التزحزح عنها …
لذلكتضاعف فرحي و ابتهاجي حين طلعت على فكركم في هذه المسألة و أنا أعدكم منأنصار هذه الحركة المباركة – حركة الإصلاح الديني – و أقوى ظهرانينا فيهذه البلاد المنكوبة التي ابتليت بجدب العقول و قحط الرجال .
مولاي
نحنفي فوضى دينية لا يدرك لها غور، و من كتم داءه قتله ، و نهج السلامة واضح، و ما هو إلا الرجوع إلى الحق و الخضوع لسلطانه ، و ما الحق إلا ما كانعليه سلفنا الصالح تحققا و اتصافا ثم تبليغا و إرشادا " الكتاب و السنة ،منهما المبدأ و اليهما المرجع"
قامت علينا الحجة بقوله تعالى : " و أن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه " الآية.
فخالفناهو اتبعنا السبل، فتفرقت بنا عن سبيل الله …و بقوله تعالى: " , أن أقيمواالدين و لا تتفرقوا فيه " ، و تبرأ منا نبينا صلى الله عليه و على آلهوسلم كما علمه سبحانه و تعالى : " إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لستمنهم" .
إن الباحثين في أحوال الإسلام وبنيه و المنقبين عن عللهمالاجتماعية كانوا يحصرون أسباب انحطاطهم بعد ذلك الصعود ، و ذلهم بعد تلكالعزة القعساء في سبب واحد هو ما نحن فيه : خلاف في الدين و مكابرة فياليقين ، و أهواء مطاعة على غير بينة ، و لا هدى و لا كتاب منير …
… و إنني أهنئ نفسي بوجودكم ، و حسن ذوقكم، وأتوسم فيكم على بعد الدار – عضدا للإصلاح الذي ننشده ، و أن الله لمع الصابرين "
محمد البشير الإبراهيمي
في 4 شوال 1346 هـ [ أفريل 1928م].

– رسالة بعنوان " الدين النصيحة "
كماكان الشيخ ينسخ المصاحف و الكتب ، و قد قال بنفسه بأنه ينسخ مصحفا كاملافي اقل من نصف شهر ، ثم يبيعه ليشتري بثمنه الكتب التي يفتقدها مطبوعةكانت أم منسوخة اثراءا لمكتبه و دعما لطلبته و غيرهم من المهتمين ، وكانلا يكل و لا يمل فقد نسخ المئات من الكتب و المخطوطات و المجلدات
و كان خطه مغربيا أصيلا جميلا سهل القراءة لا اعوجاج في سطروه و لا انحناء و كأنه خط مطبعي.

انتقاله إلى بني اشبانة:
انتقل بعد وفاة أبيه و نشوب خلاف بينه و بين قائد دوار بني ورتيلان الى قرية بني شبانة حيث استقر بها إلى غاية وفاته رحمه الله.
معالعلم انه قبل هذه الفترة جرت عملية تلقيب العائلات الجزائرية ( الألقابالعائلية حتى تستطيع السلطات الإستدمارية الفرنسية و التحكم في الهجرة والتنقل ) فاختير له لقب " فضلاء " عوض لقب ابهلول الذي بقيت بعض أبناءعمومته يلقبون به.

وفاته:
ذكر إبنه محمد الطاهر فضلاء رحمه اللهسنة وفاته و كيفيتها فقال: " اجتمع بطلبته في دروسه التي لم ينقطع عنهايوم الأربعاء 21 جانفي ( يناير) 1945 م بقاعة الدرس في معهد زاوية سيديموسى الوغليسي و كان موضوع درسه الحديث القدسي " أنا عند حسن ظن عبدي بي …" وقد جلس نحو الساعتين يحلل و يشرح و يعلق ، أحس إثرها بصداع حاداجبره على التوقف و مغادرة القاعة ، مرفوقا ببعض طلبته إلى منزله الذي لايبعد إلا أمتارا قليلة عن المعهد ، و بمجرد وصوله إلى البيت استلقى علىالفراش فداهمته حمى قوية و أليمة ظل بها أربعة أيام فما تخف تارة الالتشتد تارة أخرى ، و في يوم الأحد 21 صفر 1346 هـ الموافق ل 4 فيفري 1945م على الساعة السابعة صباحا اسلم الروح إلى بارئها رحمه الله ، و دفن فيضريح سيدي موسى الوغليسي.

من صفاته و أخلاقه :

كان عاليالهمة و عاش عزيزا كريما ، شجاعا صادقا ، دعا الناس إلى نبذ الخرافاتلأنها عين الجمود و الاستكانة و كان سلاحه الإيمان بالله و حجته الكتاب والسنة و أقوال العلماء من السلف الصالح.
رفض إلا أن يكون عالم دين حرفتفرغ كليا لنشر الدين الحنيف و العلم الصحيح، كان رغم ظروف عصره الذياستفحلت فيه الشعوذة و انتشر فيه التدجيل اقرب ما يكون من العلماءالمجددين بحكم توسع علمه ووعيه فكان – و في غير هذا – من الأعلام الممهدينللحركة الإصلاحية الباديسية و من المرحبين بها.
وقد وجهت له دعوة للانضمام الى الحركة الإصلاحية الناشئة فرد مؤيدا لها معتذرا عن الانضمام لها لأسباب صحية نظرا لتقدم سنه.
و مما جاء في رده :
" بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله لا رب غيره ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد نور الخلق و خيره [ صلى الله عليه و على آله وسلم]
إلى إخواننا في الله ، سلام عليكم و رحمة الله و بركاته ما دامت روحات اليوم و غدواته
أما بعد:
فانمكتوبكم اتصل بأيدينا و فيه أنكم رغبتم في موافقتنا لما تحاولونه من انشاءاجتماع علماء الوطن لنهج لنهج الطريق الإسلامي لمن يهتدي عملا بقوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة" الآية.
وقوله تعالى : " و تعاونوا على البر و التقوى" الآية
هذاو إن ما يقتضيه غرضكم ، و أردتم صرف الهمة نحوه من اكبر الطاعات على ظاهرالحال عملا بقوله صلى الله عليه و سلم " لان يهدي الله على يديك رجلا خير …"
فان ظهر لكم موافقة ما تحاولونه لما تقتضيه شريعة الإسلام ،باجتماع الكلمة من الجميع و انتفاع السامعين، فَنِعم السعي سعيكم ، أعانكمالله على ذلك ، فنحن معكم بالدعاء ، لان السعي في إصلاح الدين من اكبرالطاعات كما تقدم في الحديث ، لا سيما أهل هذا الوطن في وقتنا هذا ، و أماقدومي إليكم فمتعذر علي لكبر سني و عدم طاقتي و السلام من العبد الفقيرخديم العلم و اهله السعيد بن الطاهر البهلولي."

عرف عنه تقديرهلعلماء التصوف الحقيقيين المخلصين، أما شطحات الصوفية فقد اعتبرها ظاهرةدخيلة على الإسلام و منافية للطبيعة و الفطرة لأنها تبنت فهما خاصا للكونو الحياة و الإنسان لا تتماشى في شطحاتها و غلوها مع تعاليم الإسلامالسمحة البسيطة المعتدلة، الذين تجردوا من علائقهم النفسية ، و قد سجلعبارة " لله در القائل " فوق هذين البيتين:
و الروض و الصراخ و التصفيق … عمدا بذكر الله لا يليق
و إنما المطلوب في الاذكــار… الذكر بالخشوع و الوقار.
كما كان يستمتع بترديد هذه الأبيات:
إن لله عبادا فطنا … طلقوا الدنيا و عافوا الفتنا
فكروا فيها فلما علموا… إنها ليست لحيِ وطنا
جعلوها لَجة و اتخذوا…صالح الأعمال فيها سفنا

المراجع:

– الشيخ السعيد ابهلول الورتيلاني في مجموعة من رسائله و مجالسه و فتاويه.
لمحمد الطاهر فضلاء، نشر دار هومة – 2024 .
– تاريخ الجزائر الثقافي ، أبو القاسم سعد الله ، المؤسسة الوطنية للكتابة، الجزائر،1985.
– مقال بعنوان " جهود أمازيغية في خدمة العربية " لمحمد ارزقي فراد

—–

مفهوم الهوية والاستقلال في فكر الشيخ:"الفضيل الورتيلاني"

كان الشيخ الفضيل الورتيلاني –رحمه الله وأرضاه- يجاهد ويجالد من أجل حرية الجزائر واستقلالها عن فرنسا وفكرها وثقافتها وروحها الكولونيالي ومنزعها التمسيحي الصليبي، حاملا في فكره وقلبه استراتيجية محكمة التناسق في الأصول والقواعد والوسائل والغايات، ومزودا بثقافة متراحبة الآفاق ومتسعة المجالات تجمع إلى الأصالة العربية الإسلامية بكل روافدها العلمية والثقافية، انفتاحا رصينا وركينا على علوم العصر ولغاته وثقافاته، مكنته –في يسر وهوادة- من ملء ميادين النشاط الدعوي والتعليمي والتربوي في الجزائر وخارجها في حملة تعبوية مركزة تأخذ بشغاف القلوب وتأسر العقول بسحر البيان الهامي وقوة الإقناع، ويستعمل فيها -أحايين كثيرة- لغة أجداده الأولى للبلوغ إلى ألباب مخاطبيه ببلاغة الوطني البليغ ولغة "موليير moliére" أيضا عند الاقتضاء وكلما لاحظ في الحشد المحتشد حوله ضعفا في فهم لغة الضاد، ممتثلا قوله تعالى –دوما-
}وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ{

بيد أن الغاية الثانية عنده والهدف الدائم اللازم إحرازه هو إبراز هوية الشعب الجزائري المتميزة عن فرنسا ناسجا في هذا على منوال شيوخه الأماجد في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وفي مقدمتهم الشيخ الرئيس عبد الحميد ابن باديس –رحمهم الله جميعا وأرضاهم-
1. فما هو مفهوم الهوية عند الشيخ الفضيل ؟:
اسمع إليه يقول:
" إن الحق الذي يذيب الأباطيل كلها ويبقى هو شاهدا ودليلا على نفسه هو أن الجزائر ليست فرنسية وأن الأمة الجزائرية موجودة منذ آلاف السنين ومن قبل أن توجد فرنسا بوضعها الحالي وأن الجزائر تقع في قارة وفرنسا تقع في قارة أخرى يفصل بينهما بحر عظيم هو "البحر الأبيض المتوسط"، وأن الجزائر أمة عربية مسلمة من قبل ومن بعد تآخى فيها بنو مازيغ مع بني يعرب بفضل الإسلام، فهذا الدين أبوهم وهي أمهم جميعا…"
(هـ ص 56 من "الجزائر الثائرة")
ولهذا ظل –في غير ما وهن ولا هون- يندد بسياسة فرنسا القائمة على مبدئها الخبيث " فرق تسد"
ويقول في موضع آخر:
" إن وحدة الدين قائمة لا غبش فيها وواضحة لا قلق فيها، والدين هو الذي حمل معه إلى الجزائر لغة القرآن فهي معه مقيمة لا تريم، باقية ما بقي الليل والنهار، وهي -مع الدين ومع تزاوج العنصرين الأمازيغي والعربي عبر القرون التالية للفتح الإسلامي- أساس هوية الشعب الجزائري"
وتحدث –رحمه الله- عن تمكن حب الدين والعربية من قلوب الجزائريين ومن قلوب سائر أبناء مغرب العروبة والإسلام حديثا مستفيضا لا يتسع الحيز هنا لبسط تفاصيله، مما يشي بوضوح فكرته وقوتها عن هوية الجزائر، التي لا تعني سوى كونها دائما وأبدا عربية مسلمة صاغها الإسلام ووحد(بتشديد الحاء وفتحها) لسانها وأحد (تشديد الدال وفتحها) فيها الشعور بالتميز التاريخي والحضاري والثقافي واللغوي.
2. الإسلام و العربية و التاريخ: مكونات الهوية :
وإذا كان هذا هو مفهوم الهوية في فكر الشيخ الفضيل فقد تبين –فيما أحسب- ما تقوم عليه من عناصر تكوينية ومقومات أساسية وهي إذن الإسلام، العربية، التاريخ، والإسلام بلغته الخالدة هو الذي جعل سكان الجزائر يقومون (بتشديد الواو وكسرها) كل شؤونهم الحيوية وقضاياهم الفكرية والتاريخية والجغرافية بموازينه وقيمه ومبادئه وأحكامه.
وهو الذي دفع بهم إلى الشد على زناد اليقظة الروحية والفكرية كلما شعروا بالخطر الداهم يبتغي استئصال هذه الهوية حتى أنهم –كما يقول فضيلته- ظلوا يقاومون طيلة 500 سنة جحافل الغزاة الأوربيين غير هيابين ولا وجلين ولا مستكينين للضعة والضعف …
اقرأ ما كتبه في صفحات 61، 62، 63 و 64 من كتاب "الجزائر الثائرة".
3. مفهوم الاستقلال في فكر الشيخ:
… ونأتي إلى مفهوم الاستقلال في فكره –رحمه الله وأرضاه-، الاستقلال في حقيقته الجوهرية إنما هو انعتاق الشعب الجزائري وأمثاله من الشعوب المقهورة المستعبدة (بفتح الباء) في الأرض من ربقة الاحتلال بكل مظاهره العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية. إنه انعتاق -كما يقول في أكثر من مناسبة-، من هيمنة فرنسا وسيطرتها على مختلف ميادين الحياة الوطنية.
وبهذا المفهوم الواضح الجلي للاستقلال دعا جماهير الشعب في المجامع والجوامع والمجالس العامة والخاصة وأندية الفكر وصالونات السياسة في الوطن وخارجه، إلى الدخول في تيار المقاومة الشاملة التي تنبني أولا على التحرر من عقلية ونفسية العبودية لغير الله القوي العزيز وذلك بتحرير العقول من الخرافة والوهم والبدع والضلالات والركون إلى السلبية في التعامل مع جلبة (بفتح الجيم واللام) الباطل وإجلابه بخيله ورجله.
ولما أعلنت طلائع ثورة التحرير الكبرى الانتقاض العام والانتفاض الطام (بتشديد الميم) على المحتل ومؤسساته الظالمة، سارع إلى دعوة الشعب برمته إلى شد أزرهم، وحرر مع شيخه العلامة "محمد البشير الإبراهيمي" بيانا ناريا يدعوان فيه الجزائريين كافة إلى الثورة على الغاصب للأرض والعرض والعادي على الدين واللغة والتاريخ والثقافة بكل معانيها الحضارية.
وأنت ترى كيف أنه ربط مفهوم الاستقلال بالهوية فهو لها تبع بل هو من مستلزماتها الضرورية. فالدين واللغة والتاريخ قد تعرض جميعها لحربه "العوان" وحملات تشويهه الشعواء التي استخدم فيها كل أسلحته الخفية والجلية ليصل إلى مبتغاه الخبيث وهو اجتثاث هذه الأمة من أصولها ومحو مشخصاتها الحضارية ومقوماتها الذاتية الجوهرية .
وبهذا التصور السوي للهوية والاستقلال ظل –في غير وناة ولا استئناء- يجلجل (بضم الياء) بقدسية جهاد الجزائريين عبر القرون لاسترجاع دولتهم الوطنية التي أطاح بها الاستكبار الفرنسي بقوة الحديد والنار داعيا إياهم -بمناسبة وغير مناسبة- إلى بعثها من جديد في كنف وحدة الدين واللغة والجنس والوطن وهي –لعمري- عناصر الهوية الجزائرية كما قد سمعت (بفتح التاء) ورأيت -التي لا قيمومة لها إلا بتحقيق الاستقلال الكامل عن فرنسا، وهو الاستقلال الذي لا يأخذ أبعاده الكاملة إلا باستقلال أقطار ما كان يسميه بـ "الشمال الإفريقي" العربي المسلم، واستقلال كل بلاد الإسلام في المشارق والمغارب من كل مظاهر الهيمنة الغربية العسكرية والاقتصادية والثقافية.
فقد كانت نظرته –في هذا الخصوص- ثاقبة مبعثها فهمه العميق لحركة التاريخ بعامة ولدعوة الإسلام بخاصة الداقة كثيرا على ضرورة اعتصام أمته بحبل الله في وحدة صماء يتحقق بها رقيها المادي والمعنوي وتنأى بها عن مكايد أعدائها الذين لا ينالون منها كل منال إلا حين تكون أوزاعا و أنكاثا.
ولطالما شد وكر على معامل زيغ العقيدة وحصون زيف الوطنية وبؤر عرابي (بتشديد الراء وفتحها) الانحلال الخلقي بمنزع خطابي فذ (بتشديد الذال وكسرها) وثر(بتشديد الراء وكسرها) وملكة بيانية هامية دفاقة بكل أفانين البديع والبلاغة وبصراحة لاذعة قل لها نظير وجلجل بها في معارك التحرير والتنوير في زمن كان الرجال فيه أعز من بيض الأنوق وأندر من الكبريت الأحمر، وهو في هذا –بالذات- يمتح من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي نشأ في أحضانها وأحرز في مضامير الذب عن نهجها الإصلاحي الفذ "قصب السبق".
ولهذا كان حربا شعواء على كل ما لا يزيد وحدة الدين والوطن إلا تململا. فلم يهادن بحال من الأحوال أولئك الذين باعوا أنفسهم وضمائرهم وألسنتهم لفرنسا ووقفوا أجسامهم وعقولهم على خدمتها فكانوا لها عيونا وأعوانا وجنودا وأركانا (وما أشبه الليلة بالبارحة فانظر إلى صنيع أولئك الذين مازال لهم اليوم اليد الطولى عندنا في التمكين للغة" فافا FAFA " وثقافة "العكرية" (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول).
ولشد (بتشديد الدال وفتحها) ما كان يصرخ في كل ناد وباد أن من يتحدث بغير لغته لغير ضرورة شرعية ومصلحة واقعية متأكدة مستلذا بالرطانة بها ومحقرا(بتشديد القاف وكسرها) لغة القرآن لتخلفها -زعموا- لا يختلف عن أهل تلك اللغة، فهو مثلهم في خليقته وعقيدته ونمط تفكيره وتعبيره، محكوم عليه بالتبعية الفكرية والعبودية الأدبية والوجود الملفق، وهذا دونما غفلة عن تحريض "النخب الوطنية" على تعلم ما استطاعوا من اللغات الأجنبية، ذلك أنه:
بقدر لغات المرء يكثر نفعــــــــه .. فتلك له في الملمات أعوان.
تهافت على حفظ اللغات مجاهدا
فكل لسان في الحقيقة إنسان
وظل في هذا الاتجاه يؤكد أن المرء يتعدد بتعدد اللغات التي يجيدها شريطة أن تكون لغته الوطنية العلامة المتميزة والمميزة لوجوده والمظهر الصادق لاستقلاله ووطنيته.
4. وسائل حماية الهوية و الاستقلال:
وله –رحمه الله- نظرة ضافية إلى وسائل حماية الهوية والاستقلال من أن تطولهما عوامل التحتت والتفتت بفعل الغفلة عن مكر الأعادي والضعف البين في الإيمان بهذا الدين وفي الاستقامة على هداياته وتنظيماته.
ويمكننا أن نوجزها في هذين الأمرين الجليلين وهما أبرزها على الإطلاق:
1) تمتين آصرة الأخوة الدينية والوطنية بين أبناء الشعب الجزائري، فهي منبع أخلاق الإيثار والتضحية والمحبة والإخلاص للدين والوطن وبها وحدها نحمي ذمار الهوية والاستقلال.
2) توحيد الصف والهدف، فالوطن بلا دين فوضى عارمة وساحة بكر للصراعات على المصالح وتنازع الأهواء وتدخل (بتشديد الخاء وضمها) قوى البغي والاستكبار..والدين بلا وطن ولا أرض يقيم عليها معالمه التوحيدية والحضارية نهب للمطامع الصليبية والمطامح الصهيونية التي تسعى -في تفان أسطوري لم يبله (بضم الياء) كر الجديدين- لاحتلال الأوطان الإسلامية بحدها وحديدها منعا لكل وحدة يبنيها الدين بين مختلف الأجناس العربية والأمازيغية والكردية والطورانية والفارسية والهندية والفرعونية والفينيقية.
وليس كالدين في فكر الشيخ الفضيل موحدا بينها ولن تحل محله –أبدا- العلمانية عاملا للتوحيد بين الأجناس والأديان بل أثبت التاريخ والتجارب أنها لم تزد على أن عمقت (بتشديد الميم وفتحها) الشرخ وأطلقت العقال للفتن الطائفية والدينية لتأتي على الأخضر واليابس. والواقع المعاصر يضج بهذه الحقائق الصارخة ضجا: فهل من مدكر (بضم الميم وتشديد الدال وفتحها)؟ !.
إن العلمانية وباء وبيل وقد كانت ولا تزال شجرة خبيثة نبتت في تربة خبيثة والإسلام منها براء براء براء.
اللهم هل بلغت فاشهد
المصدر: جريدة البصائر

—–

الفقيه العلامة المصلح الشيخ السعيد ابهلول الورتلاني

مقدمة:

لقدكانت لحالة الجزائريين المرضية في القرن 19 للميلاد من انتشار للضلالاتوأسباب الغواية والانحراف ومحاولة الاستدمار طمس الشخصية ونشر الإلحادوالتنصير فبرز علماء جزائريون حاولوا بكل جهدهم تنوير قومهم ، و تعليمهممبادئ الدين الإسلامي الحنيف ، بعيدا عن الخزعبلات و البدع التي انتشرتبسبب الجهل و الاستدمار، و من بين هؤلاء الرجال مترجمنا الذي عمل جاهدا معثلة من العلماء يتقدمهم الشيخين عبد الحميد بن باديس والإبراهيمي الذينعملوا على التصدي ومحاصرة هذه الأمراض التي فككت أواصر هذه الأمة ، وبذلوا الغالي و النفيس في سبيل تصحيح المفاهيم و إعداد الشعب الجزائريللعودة إلى منابع الإسلام القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة.

مولده و أسرته :

ولدفي قرية ألموثن ببني ورتيلان، ولاية سطيف حاليا سنة 1276 هـ ( 1859 م ) ،و قد كتب والده في مجلد مخطوط بخط يده ما يلي : " …. في اليوم الثامن منرجب أحد شهور الله الحرم من عام 1276 هـ سنة ست و سبعين و مائتين وألف ،جعل الله البركة في عمره و أنبته نباتا حسنا و رزقه العلم النافع و القلبالخاشع و الرزق الواسع و العمل المتقبل ، و حفظه مما يخشى منه و جعله بارالربه مع والديه و حشرنا و إياه مع أبائنا في زمرة مؤلفي هذا الكتاب وتغمدنا برحمته آمين".
ينتمي إلى أسرة " المرابطين الشرفاء " [ وأخيكمأبو مريم منهم ] الذين ينتسبون – و الناس مصدقون في أنسابهم – إلى الدوحةالنبوية الشريفة ، و بقوا محافظين على هذا الشرف حتى حين امتزجوا بمختلفالأسر البربرية بالمصاهرة ، فيسبق اسمهم " بسيدي فلان" ، أما الأنثى فتدعىب: " لـلا ".
و هذه الأسرة اشتهرت بالعلم و الدين ، فعائلة أبهلول ( البهاليل : الشجعان الصناديد ) لا يخلو جيل منها من عالم قرآني أو محدث أوفقيه أو أديب.

طلبه العلم و شيوخه:

أول شيوخه هو والدهالشيخ الطاهر بن احمد ابهلول و قد عرف بعلمه وفقهه، كما كان من حفاظالقرآن الكريم ، فعلمه مبادئ العربية و رسم الكتابة ، و لما بلغ الخامسةمن عمره بدأ في تحفيظه القرآن الكريم ، كما قام بتأديبه و تربته أحسنتربيه فلقته تعاليم الإسلام القويم، و قد طال العمر بالوالد حتى رأى ابنهعالما و مدرسا لا يشق له غبار.
و حفظ مترجمنا عن ظهر قلب بعض الأراجيزفي القراءات و التوحيد و مبادئ الفقه و اللغة ، أثناء حفظه للقرآن الكريمالذي ختمه ثلاث ختمات متتالية ، ثم قرأ مختصر خليل في الفقه و ألفية ابنمالك ، و حفظ المتون المعروفة في وقته و استوعب النص و شروحه ، مما جعلهمرجعا حجة في القضاء و الفتوى لا يجاري و لا يضاهي بإجماع علماء وقتهومشايخه.
بعد هذه المرحلة انتقل لطلب العلم عند علماء وشيوخ المعاهد و الزوايا المعروفين و منهم:
– الشيخ يحي حمودي امام و مدرس مسجد اولموتن ببني ورتيلان حتى وفاته ، اخذعنه علوم الشريعة و الدين و قد أجازه بما لديه من مرويات و كتب بعد ان لمسبنفسه سعة علمه و أهليته لتلقي العلوم الشرعية.
– الشيخ عبد الله حموديابن الشيخ يحي حمودي و خليفته بعد وفاته و اخذ عنه علوم العربية و النحو والصرف و البلاغة و البيان ، و قد أجازه هو الأخر كوالده لما تأكد له ضلوعهفي العلوم المدروسة.
– الشيخ السعيد بن الحريزي العيدلي و عنه اخذ اصول الفقه و علوم اللسان و البلاغة و العروض.
– الشيخ محمد القاضي الصدوقي من قرية ثقاعت بلدة صدوق و لاية بجاية و عنه اخذ الفقه و التصوف و التفسير.
– الشيخ احمد رحاب المجاهد الذي شارك في ثورة الشريف المقراني سنة 1871م ، وعنه اخذ فنون المنطق و التاريخ الإسلامي عبر مؤلفات سعيد قدورة الازهري.

كما اخذ علوم التفسير و الحديث الشريف و الفقه عن الأساتذة:

– الشيخ حمدان لونيسي دفين المدينة النبوية طيبة المطيبة ،الأستاذ الكبير والأب الروحي للإمام عبد الحميد بن باديس، حيث تتلمذ له مترجمنا لما كانيزور مدينة قسنطينة ، كما كان يراسله يطلب رأيه في الفتاوي التي تعرض عليه، و كان مترجمنا حين يخاطبه يحليه هكذا : " حضرة ذي المعارف الربانية والنفحات الرحمانية ، وارث علم الأولين ، ونخبة العلماء العاملين ، إمامالتحقيق ، و علم التحرير و التدقيق، العلامة الجليل ، الدراكة النبيل…".
– العالم المفكر العامل بعلمه، الأستاذ المربي المعلم عبد القادر المجاويالقسنطيني المغربي ( ت سنة1332) المدرس بجامع الكتاني والمدرسة الكتانيةبقسنطينة ، ثم بالمدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة ، من مؤلفات الكثيرة: " إرشاد المتعلمين" ، و" المرصاد في مسائل الاقتصاد" , و " شرح منظومة فيإنكار البدع والمفاسد الاجتماعية " للمفتي الشيخ المولود بن الموهوب.

– الشيخ صالح بن مهنا القسنطيني الأزهري، أحد رجال الإصلاح في الجزائر الذينمع الأسف لا يعرفهم الكثير ، وقد كان المفكر الراحل مالك بن نبي رحمه اللهيعتبره رمز الإصلاح في الجزائر وينوه بذكره في كتبه و مقالاته و مجالسه ومذكراته، درس بجامع الزيتونة المعمور ، و بالأزهر الشريف ، و عين إماماخطيبا بالجامع الكبير بقسنطينة بعد عودته إلى أرض الوطن ، كما شارك فيالتعليم و التدريس ، و التأليف أيضا حيث ترك مؤلفات منها " البدر الأسمىفي بيان معاني نظم الأسماء الحسنى " و " كتاب شرح ابن عاشر "
و " تنبيه المغترين والرد على إخوان الشياطين " و " مختصر الترغيب والترهيب " و غيرها.
– الشيخ الفقيه الأديب الأريب ، عاشور الحنفي البسكري.

التدريس:
انتصبللتدريس و هو دون الثلاثين من عمره ، و استمر فيه أكثر من ستين سنة ، وكانت له طريقة في التعليم يستعمل فيها مختلف الطرق منها إيراد الأقوال والأمثال و الحكم و الأشعار، و قد استقبل الطلبة القادمين من مختلف جهاتالوطن ، و كان يوزعهم على محسني القرية للتكفل بهم ، الى جانب هذا كانينتقل إلى أماكن النزاع بنفسه للإصلاح بين المتنازعين ، و قد اشتهرتفتاويه حتى اعتمدها القضاة و راسله الكثير منهم في شأنها ، و قد علق علىفتاويه و أعجب بها و رضي بما فيه شيخه حمدان لونيسي ، كما قرضها الشيخ عبدالحميد بن باديس.
علم في نواحي عين البيضاء ( أم البواقي ) ، وادي زناتي ( ولاية قالمة) ،
زاوية بوقشابية ( عنابة) حيث درس مختصر خليل و السنوسية في التوحيد و الاجرومية في النحو و غيرها
معهد زاوية فريحة الساحلية ببني ورتيلان و له تلاميذ نجباء خلفوه في التدريس منهم التلميذ الوفي الشيخ صالح الفريحي
مسجدالشيخ الرحالة الشريف الحسين الورتيلاني ومن تلامذته فيه الشيخ الداعيةالفضيل الورتيلاني و غيره من الطلبة الذين انتقلوا إلى قسنطينة للالتحاقبمعهد ابن باديس ( الجامع الاخضر ) و أصبحوا قادة الحركات الإصلاحية والعلمية و الوطنية و استشهد غالبهم في الثورة التحريرية المباركة في سنمتقدمة
معهد الزاوية الزورقية بمشارف بني وغليس شمال وادي الصومام ، و هي تنسب الى الشيخ احمد زروق البرنوسي.
معهدزاوية سيدي موسى بني وغليس في سفح جبال جرجرة شمال وادي الصومام الذي يصبقرب ميناء بجاية الحمادية ، و هو معهد مشهور في بلاد القبائل الصغرى والكبرى لما له من أوقاف و شيوخ حيث يؤمه مئات الطلبة من جهات القطرالجزائري ، و قد اشتهر بتخريج أئمة الصلوات و الخطباء ، فحفظة القرآنالكريم منه يعدون بالمئات من خراطة عين الكبيرة نقاوس باتنه الزاب و غيرها.
مسجدسيدي عيش ( بجاية ) حيث كان الشيخ ينزل كل يوم أربعاء ، و هو يوم تنعقدفيه سوق عمومية مزدهرة و مشهورة يقصدها الناس بكثرة من القرى و المداشرالمجاورة ، فكان يعقد مجلس فتوى و قضاء يفتى فيه الناس ـ، يتلوه دروساللشيخ في الفقه و النحو و كتاب السلم في المنطق للشيخ الاخضري.

تلامذته:
تخرجعلى يدي الشيخ خلق و أمم لا تعد و لا تحصى ، و قد رأينا كثرة المعاهد والزوايا التي درس و علم فيها ، و كيف كان من المجددين في الحركة الاصلاحية، و من أشهر تلامذته:
أبناؤه :
– شهيد الثورة التحريرية المباركة ،الأستاذ المربي الأديب الشاعر عبد الملك فضلاء ( 1920 – 1957 م ).
– العالم الأديب المسرحي محمد الطاهر فضلاء رحمه الله ( 30 / 03 / 1918 م – 19 / 07 / 2024 م).
– الأديب المسرحي محمد الباهي فضلاء حفظه الله .
و العلماء و المشايخ :
– الشيخ المصلح الرحالة الفضيل الورتيلاني.
– الهادي الزروقي مؤسس الحركة الاصلاحية ببجاية
– العربي الشريف امام مسجد سيدي عيش و شهيد الثورة التحريرية
– يحي الحافظي امام حر و مدرس
– محمد الطاهر شرفاوي امام و مدرس
– محمد الشريف شرفاء امام و مدرس و صهر الشيخ السعيد.
– احمد بلعياضي امام بأولاد أبراهم بلد الشيخ الإبراهيمي و لاية برج بوعريريج. وعشرات غيرهم.

مؤلفاته:
ترك رسائل كثيرة منها :
رسالةفي الرد على القائلين من الطرقيين بوجوب تلقين الأوراد للعوام من المريدينو هي الرسالة التي طبعت سنة 1928 م بمطبعة رودوسي ، و قد قرضها و أثنىعليها عدد من العلماء آنذاك منهم الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كتب إليهرسالة مطولة بخصوصها أنقلها هنا:
" الحمد لله
جناب العلامة الاديب أخينا سيدي محمد السعيد البهلولي أطال الله بقاءه و رزقنا لقاءه
السلام عليكم و رحمة الله :
وفاء للثناء الذي أنتم أهله ، و كفاء للفضل الذي أنتم قراراته و محله…
نقدم لكم تهانينا القلبية بهذا العيد، راجين أن يكون طليعة خير و فأل يمن لجميع المسلمين.
وننهي لأخوتكم الكاملة ، إني اتصلت في أثناء السنة الماضية ، بواسطة الأخمحمد السعيد بن الشيخ الحسن برسالة من وضعكم ، و ابلغني اقتراحا منفضيلتكم على هذا الحقير ، أن يلقي عليها نظرة ، و يعطي فكرة فيما تضمنته ،ثم يرشد إلى طبعها إن رآها صالحة.
هزتني أريحية الثناء على جنابكم أولا لكمال إنصافكم و حسن ظنكم في هذا العاجز و أكبرت صنيعكم في ذلك.
ثم تأملت الرسالة ، فإذا انتم ترمون عن قوس فكرتي ، و ترودون مراد انتجاعي ، فحمدت الله ، و أيقنت أن ذلك نتيجة التعارف الروحي.
المسألةالتي كتبتم فيها هي المسألة الشاغلة لأفكار دعاة الإصلاح الديني فيالشرق…و لأخيكم الضعيف في هذا الميدان جولة ظهرت آثارها في الشرق مؤيدةبجند الله و البرهان العقلي ، و سلاح الأصلين الأصيلين : كتاب الله و ماصح من سنن نبيه [ صلى الله عليه و على آله وسلم ] القولية و الفعلية …بيد أن حالة الشرق غير حالة بلادنا ، فالأنصار في الشرق متوافرون ، وفكرة الإصلاح قد تسربت الى نفوس كثير من الطبقات ، و تشربتها و خالطتهابشاشتها ، و شعر الجمهور بفظاعة الحالة الحاضرة ووجوب التزحزح عنها …
لذلكتضاعف فرحي و ابتهاجي حين طلعت على فكركم في هذه المسألة و أنا أعدكم منأنصار هذه الحركة المباركة – حركة الإصلاح الديني – و أقوى ظهرانينا فيهذه البلاد المنكوبة التي ابتليت بجدب العقول و قحط الرجال .
مولاي
نحنفي فوضى دينية لا يدرك لها غور، و من كتم داءه قتله ، و نهج السلامة واضح، و ما هو إلا الرجوع إلى الحق و الخضوع لسلطانه ، و ما الحق إلا ما كانعليه سلفنا الصالح تحققا و اتصافا ثم تبليغا و إرشادا " الكتاب و السنة ،منهما المبدأ و اليهما المرجع"
قامت علينا الحجة بقوله تعالى : " و أن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه " الآية.
فخالفناهو اتبعنا السبل، فتفرقت بنا عن سبيل الله …و بقوله تعالى: " , أن أقيمواالدين و لا تتفرقوا فيه " ، و تبرأ منا نبينا صلى الله عليه و على آلهوسلم كما علمه سبحانه و تعالى : " إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لستمنهم" .
إن الباحثين في أحوال الإسلام وبنيه و المنقبين عن عللهمالاجتماعية كانوا يحصرون أسباب انحطاطهم بعد ذلك الصعود ، و ذلهم بعد تلكالعزة القعساء في سبب واحد هو ما نحن فيه : خلاف في الدين و مكابرة فياليقين ، و أهواء مطاعة على غير بينة ، و لا هدى و لا كتاب منير …
… و إنني أهنئ نفسي بوجودكم ، و حسن ذوقكم، وأتوسم فيكم على بعد الدار – عضدا للإصلاح الذي ننشده ، و أن الله لمع الصابرين "
محمد البشير الإبراهيمي
في 4 شوال 1346 هـ [ أفريل 1928م].

– رسالة بعنوان " الدين النصيحة "
كماكان الشيخ ينسخ المصاحف و الكتب ، و قد قال بنفسه بأنه ينسخ مصحفا كاملافي اقل من نصف شهر ، ثم يبيعه ليشتري بثمنه الكتب التي يفتقدها مطبوعةكانت أم منسوخة اثراءا لمكتبه و دعما لطلبته و غيرهم من المهتمين ، وكانلا يكل و لا يمل فقد نسخ المئات من الكتب و المخطوطات و المجلدات
و كان خطه مغربيا أصيلا جميلا سهل القراءة لا اعوجاج في سطروه و لا انحناء و كأنه خط مطبعي.

انتقاله إلى بني اشبانة:
انتقل بعد وفاة أبيه و نشوب خلاف بينه و بين قائد دوار بني ورتيلان الى قرية بني شبانة حيث استقر بها إلى غاية وفاته رحمه الله.
معالعلم انه قبل هذه الفترة جرت عملية تلقيب العائلات الجزائرية ( الألقابالعائلية حتى تستطيع السلطات الإستدمارية الفرنسية و التحكم في الهجرة والتنقل ) فاختير له لقب " فضلاء " عوض لقب ابهلول الذي بقيت بعض أبناءعمومته يلقبون به.

وفاته:
ذكر إبنه محمد الطاهر فضلاء رحمه اللهسنة وفاته و كيفيتها فقال: " اجتمع بطلبته في دروسه التي لم ينقطع عنهايوم الأربعاء 21 جانفي ( يناير) 1945 م بقاعة الدرس في معهد زاوية سيديموسى الوغليسي و كان موضوع درسه الحديث القدسي " أنا عند حسن ظن عبدي بي …" وقد جلس نحو الساعتين يحلل و يشرح و يعلق ، أحس إثرها بصداع حاداجبره على التوقف و مغادرة القاعة ، مرفوقا ببعض طلبته إلى منزله الذي لايبعد إلا أمتارا قليلة عن المعهد ، و بمجرد وصوله إلى البيت استلقى علىالفراش فداهمته حمى قوية و أليمة ظل بها أربعة أيام فما تخف تارة الالتشتد تارة أخرى ، و في يوم الأحد 21 صفر 1346 هـ الموافق ل 4 فيفري 1945م على الساعة السابعة صباحا اسلم الروح إلى بارئها رحمه الله ، و دفن فيضريح سيدي موسى الوغليسي.

من صفاته و أخلاقه :

كان عاليالهمة و عاش عزيزا كريما ، شجاعا صادقا ، دعا الناس إلى نبذ الخرافاتلأنها عين الجمود و الاستكانة و كان سلاحه الإيمان بالله و حجته الكتاب والسنة و أقوال العلماء من السلف الصالح.
رفض إلا أن يكون عالم دين حرفتفرغ كليا لنشر الدين الحنيف و العلم الصحيح، كان رغم ظروف عصره الذياستفحلت فيه الشعوذة و انتشر فيه التدجيل اقرب ما يكون من العلماءالمجددين بحكم توسع علمه ووعيه فكان – و في غير هذا – من الأعلام الممهدينللحركة الإصلاحية الباديسية و من المرحبين بها.
وقد وجهت له دعوة للانضمام الى الحركة الإصلاحية الناشئة فرد مؤيدا لها معتذرا عن الانضمام لها لأسباب صحية نظرا لتقدم سنه.
و مما جاء في رده :
" بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله لا رب غيره ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد نور الخلق و خيره [ صلى الله عليه و على آله وسلم]
إلى إخواننا في الله ، سلام عليكم و رحمة الله و بركاته ما دامت روحات اليوم و غدواته
أما بعد:
فانمكتوبكم اتصل بأيدينا و فيه أنكم رغبتم في موافقتنا لما تحاولونه من انشاءاجتماع علماء الوطن لنهج لنهج الطريق الإسلامي لمن يهتدي عملا بقوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة" الآية.
وقوله تعالى : " و تعاونوا على البر و التقوى" الآية
هذاو إن ما يقتضيه غرضكم ، و أردتم صرف الهمة نحوه من اكبر الطاعات على ظاهرالحال عملا بقوله صلى الله عليه و سلم " لان يهدي الله على يديك رجلا خير …"
فان ظهر لكم موافقة ما تحاولونه لما تقتضيه شريعة الإسلام ،باجتماع الكلمة من الجميع و انتفاع السامعين، فَنِعم السعي سعيكم ، أعانكمالله على ذلك ، فنحن معكم بالدعاء ، لان السعي في إصلاح الدين من اكبرالطاعات كما تقدم في الحديث ، لا سيما أهل هذا الوطن في وقتنا هذا ، و أماقدومي إليكم فمتعذر علي لكبر سني و عدم طاقتي و السلام من العبد الفقيرخديم العلم و اهله السعيد بن الطاهر البهلولي."

عرف عنه تقديرهلعلماء التصوف الحقيقيين المخلصين، أما شطحات الصوفية فقد اعتبرها ظاهرةدخيلة على الإسلام و منافية للطبيعة و الفطرة لأنها تبنت فهما خاصا للكونو الحياة و الإنسان لا تتماشى في شطحاتها و غلوها مع تعاليم الإسلامالسمحة البسيطة المعتدلة، الذين تجردوا من علائقهم النفسية ، و قد سجلعبارة " لله در القائل " فوق هذين البيتين:
و الروض و الصراخ و التصفيق … عمدا بذكر الله لا يليق
و إنما المطلوب في الاذكــار… الذكر بالخشوع و الوقار.
كما كان يستمتع بترديد هذه الأبيات:
إن لله عبادا فطنا … طلقوا الدنيا و عافوا الفتنا
فكروا فيها فلما علموا… إنها ليست لحيِ وطنا
جعلوها لَجة و اتخذوا…صالح الأعمال فيها سفنا

المراجع:

– الشيخ السعيد ابهلول الورتيلاني في مجموعة من رسائله و مجالسه و فتاويه.
لمحمد الطاهر فضلاء، نشر دار هومة – 2024 .
– تاريخ الجزائر الثقافي ، أبو القاسم سعد الله ، المؤسسة الوطنية للكتابة، الجزائر،1985.
– مقال بعنوان " جهود أمازيغية في خدمة العربية " لمحمد ارزقي فراد

—–

—–

أضف تعليق