هذا ما قاله بومدين عن الفقيد الذي أحرج ديغول في قبره

المطر يحرم اللغويين من تشييع أمير اللغة العربية محمد فارح

هذا ما قاله بومدين عن الفقيد الذي أحرج ديغول في قبره

حرمت زوال أمس الأربعاء الأمطار الغزيرة التي غسلت شوارع منطقة الزعرورة التي تبعد عن بلدية الميلية بقرابة كيلومتر واحد في ولاية جيجل الكثير من الذين أحبوا حصة "لغتنا الجميلة" وتتلمذوا مباشرة وعبر الأثير على يد السيد محمد فارح الذي وافته المنية أول أمس، حيث حضرت "الشروق اليومي" في يوم ماطر حرم المئات من الذين نووا شد الرحال نحو مسقط رأس أمير اللغويين من قسنطينة والعاصمة وسطيف، خاصة أن الراحل كانت له صولات وجولات في الكثير من المدن ومنها سطيف التي امتهن فيها التعليم، وقد التقت "الشروق اليومي" بعمي محمد الهادي فيلالي الذي عاد بنا إلى سنوات الثورة عندما كان من بين المودعين للراحل محمد فارح الذي سافر إلى تونس وحاز على شهادة العالمية، ثم انتقل بعد ذلك إلى نبع اللغة العربية بلاد الرافدين، حيث نهل من نبع العربية، خاصة أن المسكن الذي كان يقطنه في بغداد كان يطل على نهر الفرات، وذكر عمي محمد الصالح ارتباط الراحل بأهله عندما كان يبعث رسائل إلى أصدقاء الطفولة بالميلية مزج فيها شوقه للبلاد مع عشقه وتمكنه الكبير من اللغة العربية وأصبح علامة لغة معترف بها في كل الأقطار العربية، وبالرغم من إمكانية انتقاله لتدريس اللغة العربية في الكثير من بلاد العالم العربي وحتى في دول أوربية، إلا أنه فضل أن يكون مع بداية الاستقلال مع الذين خاضوا تعليم لغة الضاد للجيل الجديد رفقة المئات من المشارقة حتى قال له الراحل هواري بومدين مرة أنه سيزعج ديغول في قبره، لأن الثوار طردوا الفرنسيين، وعمي فارح طرد اللغة الفرنسية بقصفه اللغوي الراقي.

إمام مسجد الفرقان بالميلية، قال للشروق اليومي أن خصال الفاضل كانت أيضا موسوعة لا تختلف عن موسوعته اللغوية، وتقرّر بعث سهرة لغوية وتاريخية في مسقط رأسه في سابع أيام رحيله، كما التقت الشروق اليومي بابنيه، حيث تكفّل السيد فريد فارح باستقبال الضيوف، وتأسف لعدم تمكن المئات من أصدقاء وتلاميذ الراحل من حضور تشييع جنازته بسبب بعد المسافة بين ولايتي جيجل والجزائر العاصمة، وأيضا بسبب الأمطار الغزيرة التي تهاطلت على طول الطريق الرابط بين العاصمة وجيجل، ومع ذلك تابع الحضور الكلمة التأبينية المؤثرة التي قرأها السيد بوجويجة، ناظر الشؤون الدينية، وكانت بخط وزير الشؤون الدينية غلام الله ذكّر فيها بالراحل اللغوي الذي حبّب الجزائريين في لغتهم العربية، وقربهم من دين الله الحنيف.

وإذا كان الراحل قد ترك خمس بنات يعشن في الجزائر العاصمة وولدين هما من كانا في استقبال الحضور نهار امس في مستودع بمنطقة زعرور، فإن أبناء الراحل من التلاميذ كانوا بالعشرات ومن بينهم السيد رفيق لوصيف الذي حضر من سطيف، وقال أنه أستاذ لغة فرنسية تعلمها في مدارس، ولكنه تعلم اللغة العربية على يد الراحل وعشقها رغم أنه لم يدخل مدرسة عربية في حياته، ومن الطرائف أن هذا المفرنس صار يتكلم في بيته مع أبنائه باللغة العربية الفصحى فقط؟

……………………………………

غيّب الموت، صباح الثلاثاء، الشيخ النحوي اللغوي الفقيه محمد فارح رحمه الله، عن عمر يناهز 82 سنة قضى جلّها في الدفاع عن الأمة الجزائرية وثوابتها، ذكر الشيخ محمد فارح أنه حين أجرى امتحان القبول في معهد ابن باديس، سأله الشيخ الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو، عن اسمه أجاب الشيح فارح "فارح محمد بن رابح"، فاستبشر الشيخ الشهيد بهذا الاسم وقال للتلميذ الجديد "اسمك يبدأ بالفرح وينتهي بالربح".

ولد الشيخ الراحل في 5 ماي 1930، ومنذ بدايته كان محمد فارح رحمه الله، على موعد مع التألق العلمي، في بدايته اضطرته الظروف الاجتماعية إلى التخلي عن الدراسة في المسجد والتوجه إلى العمل، فحرص على إيجاد عمل يتيح له فرصة حفظ القرآن فوفّقه الله للحصول على مهنة "راعي غنم"، وأثناء عمله ذلك تعلّم الاجتهاد في حفظ الأمانة والصبر، ومنَ الله عليه بإتمام حفظ كتابه، ثم ساقه القدر إلى زاوية "أولاد سيدي الشيخ" بميلة، وهناك ضبّط حفظه للقرآن، وتعلّم رسمه كما أخذ مبادئ اللغة العربية والفقه الإسلامي.
ولأنه كان ذا نفس كبيرة تطلع إلى الالتحاق بالجامع الأخضر، الذي كان في ذلك الوقت منارة للعلم، فكان له ذلك، حيث التحق بمعهد ابن باديس سنة 1950، وبعد ذلك فتِحت أمامه دروب العلم التي تتبّعها فجا فجا، شغفه بالعلم لم يلهه عن قضية وطنه التي شغلته، بل لعلها كانت تدفعه إلى العلم، لذا كان من الطبيعي أن يكون في الصفوف الأولى حين نادى داعي الجهاد، وأول مشاركة ميدانية له كانت خلال هجمات الشمال القسنطيني في أوت 1955، فكانت حياته مزيجا رائعا بين العلم والجهاد. وبعد الاستقلال أتيحت للشيخ محمد فارح، فرصة أن يكون دبلوماسيا، ولكن الله أراد أن يستعمله في الدفاع عن ثوابت هذه الأمة والتمكين لها، وباعتباره أحد القلائل الذين حصلوا في ذلك الوقت على البكالوريوس في الأدب من جامعة بغداد، عين أستاذا للغة في ثانوية مليكة قايد بسطيف، ثم في ثانوية المقراني في العاصمة، حيث قضى فيها 14 سنة كاملة توالت خلالها عليه العروض لتولي المناصب، ولكنه أبى أن يتخلى عن تلاميذه الذين أحبّوه رغم صرامته.
ثم التحق مدرسا بمعهد تخريج المدرسين الذي كان يديره الراحل عبد الحميد مهري، وفي تلك الفترة اختاره اسماعيل حمداني، ليكون واحدا من الذين شاركوا في صياغة الميثاق الوطني، وتصحيح كثير من خطابات الرؤساء، وكان خلال تلك الفترة كما قبلها وبعد، أحد المدافعين الأقوياء عن اللغة العربية وعلومها، وعن الشريعة وأخلاقها، فأسس في جريدة الشعب، التي عمل فيها صحفيا لمدة 34 سنة ركنا سمّاه "الثقافة للجميع" وركنا آخر صحح من خلاله الأخطاء الشائعة يذكر فيها "الخطأ والصواب"، كما قوّم اللحن الذي وقع فيه الناس عبر حصة إذاعية ناجحة اسمها "لغتنا الجميلة"، وهي الحصة التي تأسف كثيرا لتوقيفها بدون سبب واضح، كما أخبرنا خلال حفل التكريم الذي أقامته له جريدة "الشروق" قبل عامين، كان خلاله سعيدا بأن تكون جريدة "الشروق" الناطقة بالعربية الجريدة الأولى للجزائريين ورغم آثار المرض التي كانت بادية عليه إلا أنه كان مهتما بهمّ اللغة أكثر من اهتمامه بوضعه الصحي، وخلال الندوة التي ترجى فيها المسؤولين إعادة بث حصة "لغتنا الجميلة"، أوصى: "اللغة تحيا بالاستعمال والمرض يحيا بالإهمال أما الأخطاء فتنتشر بالاستعمال والإهمال".

—–

أضف تعليق